فصل: قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالتّقْدِيرِ فِي الْكَفّارَةِ دُونَ النّفَقَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.أَقْوَالُ الصّحَابَةِ فِي الْكَفّارَةِ:

فَاَلّذِي دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسّنّةُ أَنّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفّارَاتِ وَالنّفَقَاتِ هُوَ الْإِطْعَامُ لَا التّمْلِيكُ وَهَذَا هُوَ الثّابِتُ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيّ: يُغَدّيهِمْ وَيُعَشّيهِمْ خُبْزًا وَزَيْتًا. وَقَالَ إسْحَاقُ عَنْ الْحَارِثِ كَانَ عَلِيّ يَقُولُ فِي إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ يُغَدّيهِمْ وَيُعَشّيهِمْ خُبْزًا وَزَيْتًا أَوْ خُبْزًا وَسَمْنًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى عَنْ لَيْثٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قَالَ الْخُبْزُ وَالسّمْنُ وَالْخُبْزُ وَالزّيْتُ وَالْخُبْزُ وَاللّحْمُ. ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللّبَنُ وَالْخُبْزُ وَالزّيْتُ وَالْخُبْزُ وَالسّمْنُ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُطْعِمُ الرّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللّحْمُ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدّثَنَا يُونُسُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كَفّرَ عَنْ يَمِينٍ لَهُ مَرّةً فَأَمَرَ بُجَيْرًا أَوْ جُبَيْرًا يُطْعِمُ عَنْهُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَمَرَ لَهُمْ بِثَوْبِ مُعَقّدٍ أَوْ ظَهْرَانِيّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ إسْحَاقَ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ عَنْ حُمَيْدٍ أَنّ أَنَسًا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرِضَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ وَكَانَ يَجْمَعُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَيُطْعِمُهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا أَكْلَةً وَاحِدَةً.

.أَقْوَالُ التّابِعِينَ فِي الْكَفّارَةِ:

وَأَمّا التّابِعُونَ فَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبِي رُزَيْنٍ وَعُبَيْدَةَ وَمُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَالشّعْبِيّ وَابْنِ بُرَيْدَةَ وَالضّحّاكِ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَمُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ وَالْأَسَانِيدُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُغَدّي الْمَسَاكِينَ وَيُعَشّيهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَكْلَةً وَاحِدَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ خُبْزٌ وَلَحْمٌ خُبْزٌ وَزَيْتٌ خُبْزٌ وَسَمْنٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالرّوَايَةُ الْأُخْرَى: أَنّ طَعَامَ الْكَفّارَةِ مُقَدّرٌ دُونَ نَفَقَةِ الزّوْجَاتِ. فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ التّقْدِيرُ فِيهِمَا كَقَوْلِ الشّافِعِيّ وَحْدَهُ وَعَدَمُ التّقْدِيرِ فِيهِمَا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ. وَالتّقْدِيرُ فِي الْكَفّارَةِ دُونَ النّفَقَةِ كَالرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ.

.قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالتّقْدِيرِ فِي الْكَفّارَةِ دُونَ النّفَقَةِ:

قَالَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْفَرْقُ بَيْنَ النّفَقَةِ وَالْكَفّارَةِ أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا هِيَ مُقَدّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلَا أَوْجَبَهَا الشّارِعُ بِالْمَعْرُوفِ كَنَفَقَةِ الزّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَالْإِطْعَامُ فِيهَا حَقّ لِلّهِ تَعَالَى لَا لِآدَمِيّ مُعَيّنٍ فَيَرْضَى بِالْعِوَضِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجْزِهِ وَرُوِيَ التّقْدِيرُ فِيهَا عَنْ الصّحَابَةِ فَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ إنّ نَاسًا يَأْتُونِي يَسْأَلُونِي فَأَحْلِفُ أَنّي لَا أُعْطِيهِمْ ثُمّ يَبْدُو لِي أَنْ أُعْطِيَهُمْ فَإِذَا أَمَرْتُك أَنْ تُكَفّرَ فَأَطْعِمْ عَنّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرّ. حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ يَا يَرْفَا إذَا حَلَفْت فَحَنِثْت فَأَطْعِمْ عَنّي لِيَمِينِي خَمْسَةَ أَصْوُعٍ عَشَرَةَ مَسَاكِين. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ ابْنِ أَبِي مُرّةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيّ قَالَ كَفّارَةُ الْيَمِينِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ.
حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحِيمِ وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ قُرْطٍ عَنْ جَدّتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ إنّا نُطْعِمُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ. وَقَالَ إسْمَاعِيلُ حَدّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّهِ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ يُجْزِئُ فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلّ مِسْكِينٍ مُدّ حِنْطَةٍ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَيّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا ذَكَرَ الْيَمِينَ أَعْتَقَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ مُدّ مُدّ. وَصَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ مُدّ وَمَعَهُ أُدْمُهُ. وَأَمّا التّابِعُونَ فَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ كُلّ طَعَامٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ لِلْمَسَاكِينِ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ وَكَانَ يَقُولُ فِي كَفّارَةِ الْأَيْمَانِ كُلّهَا: مُدّانِ لِكُلّ مِسْكِينٍ. وَقَالَ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَدْرَكْتُ النّاسَ وَهُمْ يُعْطُونَ فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ مُدّا بِالْمُدّ الْأَوّلِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَأَبُو سَلَمَةَ مُدّ مُدّ مِنْ بُرّ وَقَالَ عَطَاءٌ فَرْقًا بَيْنَ عَشَرَةٍ وَمَرّةً قَالَ مُدّ مُدّ. قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي كَفّارَةِ فِدْيَةِ الْأَذَى: أَطْعِمْ سِتّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلّ مِسْكِينٍ. فَقَدّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِدْيَةَ الْأَذَى فَجَعَلْنَا تَقْدِيرَهَا أَصْلًا وَعَدّيْنَاهَا إلَى سَائِرِ الْكَفّارَاتِ ثُمّ قَالَ مِنْ قَدْرِ طَعَامِ الزّوْجَةِ ثُمّ رَأَيْنَا النّفَقَاتِ وَالْكَفّارَاتِ قَدْ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ فَاعْتَبَرْنَا إطْعَامَ النّفَقَةِ بِإِطْعَامِ الْكَفّارَةِ وَرَأَيْنَا اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي جَزَاءِ الصّيْدِ {أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [الْمَائِدَةِ 95] وَمَا أَجْمَعَتْ الْأُمّةُ أَنّ الطّعَامَ مُقَدّرٌ فِيهَا وَلِهَذَا لَوْ عَدِمَ الطّعَامَ صَامَ عَنْ كُلّ مُدّ يَوْمًا كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ وَالنّاسُ بَعْدَهُ فَهَذَا مَا احْتَجّتْ بِهِ هَذِهِ الطّائِفَةُ عَلَى تَقْدِيرِ طَعَامِ الْكَفّارَةِ.

.حُجّةُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ التّقْدِيرِ فِي النّفَقَةِ وَالْكَفّارَاتِ:

قَالَ الْآخَرُونَ لَا حُجّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمّةِ وَقَدْ أَمَرَنَا تَعَالَى أَنْ نَرُدّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَذَلِكَ خَيْرٌ لَنَا حَالًا وَعَاقِبَةً وَرَأَيْنَا اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا قَالَ فِي الْكَفّارَةِ {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وإطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا فَعَلّقَ الْأَمْرَ بِالْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ الْإِطْعَامُ وَلَمْ يُحِدّ لَنَا جِنْسَ الطّعَامِ وَلَا قَدْرَهُ وَحَدّ لَنَا جِنْسَ الْمُطْعَمِينَ وَقَدْرَهُمْ فَأَطْلَقَ الطّعَامَ وَقَيّدَ الْمَطْعُومِينَ وَرَأَيْنَاهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ ذَكَرَ إطْعَامَ الْمِسْكِينِ فِي كِتَابِهِ فَإِنّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِطْعَامَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} [الْبَلَدِ 12]. وَقَالَ: {وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الْإِنْسَانِ 8] وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ يَقِينًا أَنّهُمْ لَوْ غَدّوْهُمْ أَوْ عَشّوْهُمْ أَوْ أَطْعَمُوهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ خُبْزًا وَمَرَقًا وَنَحْوَهُ لَكَانُوا مَمْدُوحِينَ دَاخِلِينَ فِيمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَدَلَ عَنْ الطّعَامِ الّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ إلَى الْإِطْعَامِ الّذِي هُوَ مَصْدَرٌ صَرِيحٌ وَهَذَا نَصّ فِي أَنّهُ إذَا أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ وَلَمْ يُمْلِكْهُمْ فَقَدْ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَصَحّ فِي كُلّ لُغَةٍ وَعُرْفٍ أَنّهُ أَطْعَمَهُمْ. قَالُوا: وَفِي أَيّ لُغَةٍ لَا يَصْدُقُ لَفْظُ الْإِطْعَام إلّا بِالتّمْلِيكِ؟ وَلَمّا قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَطْعَمَ الصّحَابَةَ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ خُبْزًا وَلَحْمًا. كَانَ قَدْ اتّخَذَ طَعَامًا وَدَعَاهُمْ إلَيْهِ عَلَى عَادَةِ الْوَلَائِمِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي وَلِيمَةِ صَفِيّةَ أَطْعِمْهُمْ حَيْسًا وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نَذْكُرَ شَوَاهِدَهُ قَالُوا: وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [الْمَائِدَةِ 89] وَمَعْلُومٌ يَقِينًا أَنّ الرّجُلَ إنّمَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ وَاللّحْمَ وَالْمَرَقَ وَاللّبَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِلَا شَكّ وَلِهَذَا اتّفَقَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فِي إطْعَامِ الْأَهْلِ عَلَى أَنّهُ غَيْرُ مُقَدّرٍ كَمَا تَقَدّمَ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِطَعَامِ الْكَفّارَةِ فَدَلّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنّ طَعَامَ الْكَفّارَةِ غَيْرُ مُقَدّرٍ. وَأَمّا مَنْ قَدّرَ طَعَامَ الْأَهْلِ فَإِنّمَا أَخَذَ مِنْ تَقْدِيرِ طَعَامِ الْكَفّارَةِ فَيُقَالُ هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى النّصّ فَإِنّ اللّهَ أَطْلَقَ طَعَامَ الْأَهْلِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا لِطَعَامِ الْكَفّارَةِ فَعُلِمَ أَنّ طَعَامَ الْكَفّارَةِ لَا يَتَقَدّرُ كَمَا لَا يَتَقَدّرُ أَصْلُهُ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيّ الْبَتّةَ تَقْدِيرُ طَعَامِ الزّوْجَةِ مَعَ عُمُومِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي كُلّ وَقْتٍ. قَالُوا: فَأَمّا الْفُرُوقُ الّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَ طَعَامِ الْكَفّارَةِ وَحَاصِلُهَا خَمْسَةُ فُرُوقٍ أَنّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَأَنّهَا لَا تَتَقَدّرُ بِالْكِفَايَةِ وَلَا أَوْجَبَهَا الشّارِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْعِوَضِ عَنْهَا وَهِيَ حَقّ لِلّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزّوْجَةِ فَيُقَالُ نَعَمْ لَا شَكّ فِي صِحّةِ هَذِهِ الْفَرُوقِ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبُ تَقْدِيرِهَا بِمُدّ وَمُدّيْنِ؟ بَلْ هِيَ إطْعَامٌ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ وَمَعَ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا يَدُلّ عَلَى تَقْدِيرِهَا بِوَجْهٍ. وَأَمّا مَا ذَكَرْتُمْ عَنْ الصّحَابَةِ مِنْ تَقْدِيرِهَا فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلِيّ وَأَنَسٌ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهُمْ قَالُوا: يُجْزِئُ أَنْ يُغَدّيَهُمْ وَيُعَشّيَهُمْ.
الثّانِي: أَنّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ الْمُدّ وَالْمُدّانِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَتَحْدِيدًا بَلْ تَمْثِيلًا فَإِنّ مِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْمُدّ وَرُوِيَ عَنْهُ مُدّانِ وَرُوِيَ عَنْهُ مَكّوكٌ وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ التّغْدِيَةِ وَالتّعْشِيَةِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَكْلَةٌ وَرُوِيَ عَنْهُ رَغِيفٌ أَوْ رَغِيفَانِ فَإِنْ كَانَ هَذَا اخْتِلَافًا فَلَا حُجّةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَبِحَسَبِ حَالِ الْحَالِفِ وَالْمُكَفّرِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التّمْثِيلِ فَكَذَلِكَ. فَعَلَى كُلّ تَقْدِيرٍ لَا حُجّةَ فِيهِ عَلَى التّقْدِيرَيْنِ. قَالُوا: وَأَمّا الْإِطْعَامُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [الْبَقَرَةِ 196] وَاللّهُ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ هَذِهِ الثّلَاثَةَ وَلَمْ وَيُقَيّدْهَا. وَصَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَقْيِيدُ الصّيَامِ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ وَتَقْيِيدُ النّسُكِ بِذَبْحِ شَاةٍ وَتَقْيِيدُ الْإِطْعَامِ بِسِتّةِ مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: فَإِطْعَامُ سِتّةِ مَسَاكِينَ وَلَكِنْ أَوْجَبَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً وَصَوْمًا مُطْلَقًا وَدَمًا مُطْلَقًا فَعَيّنَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْفَرَقِ وَالثّلَاثَةِ الْأَيّامِ وَالشّاةِ. وَأَمّا جَزَاءُ الصّيْدِ فَإِنّهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ فَإِنّ الْمُخْرِجَ إنّمَا يُخْرِجُ قِيمَةَ الصّيْدِ مِنْ الطّعَامِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقِلّةِ وَالْكَثْرَةِ فَإِنّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا يُنْظَرُ فِيهَا إلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَإِنّمَا يُنْظَرُ فِيهَا إلَى مَبْلَغِ الطّعَامِ فَيُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ إطْعَامِهِمْ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَقْدِيرُ الطّعَامِ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْمُتْلَفِ وَهُوَ يَقِلّ وَيَكْثُرُ وَلَيْسَ مَا يُعْطَاهُ كُلّ مِسْكِينٍ مُقَدّرًا. ثُمّ إنّ التّقْدِيرَ بِالْحَبّ يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا بَاطِلًا بَيّنَ الْبُطْلَانِ فَإِنّهُ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ لَهَا عَلَيْهِ شَرْعًا الْحَبّ وَأَكْثَرُ النّاسِ إنّمَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ فَإِنْ جَعَلْتُمْ هَذَا مُعَاوَضَةً كَانَ رِبًا ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ تَجْعَلُوهُ مُعَاوَضَةً فَالْحَبّ ثَابِتٌ لَهَا فِي ذِمّتِهِ وَلَمْ تَعْتَضْ عَنْهُ فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمّتُهُ مِنْهُ إلّا بِإِسْقَاطِهَا وَإِبْرَائِهَا فَإِذَا لَمْ تُبْرِئْهُ طَالَبَتْهُ بِالْحَبّ مُدّةً طَوِيلَةً مَعَ إنْفَاقِهِ عَلَيْهَا كُلّ يَوْمٍ حَاجَتَهَا مِنْ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْحَبّ دَيْنًا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ مِنْ التّرِكَةِ مَعَ سِعَةِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا كُلّ يَوْمٍ. وَمَعْلُومٌ أَنّ الشّرِيعَةَ الْكَامِلَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ تَأْبَى ذَلِكَ كُلّ الْإِبَاءِ وَتَدْفَعُهُ كُلّ الدّفْعِ كَمَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ وَالْعُرْفُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنّ النّفَقَةَ الّتِي فِي ذِمّتِهِ تَسْقُطُ بِاَلّذِي لَهُ عَلَيْهَا مِنْ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّهُ لَمْ يَبِعْهُ إيّاهَا وَلَا اقْتَرَضَهُ مِنْهَا حَتّى يَثْبُتَ فِي ذِمّتِهَا بَلْ هِيَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الضّيْفِ لِامْتِنَاعِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ الْحَبّ بِذَلِكَ شَرْعًا. وَلَوْ قُدّرَ ثُبُوتُهُ فِي ذِمّتِهَا لَمَا أَمْكَنَتْ الْمُقَاصّةُ لِاخْتِلَافِ الدّينَيْنِ جِنْسًا وَالْمُقَاصّةُ تَعْتَمِدُ اتّفَاقَهُمَا. هَذَا وَإِنْ قِيلَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إنّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى النّفَقَةِ مُطْلَقًا لَا بِدَرَاهِمَ وَلَا بِغَيْرِهَا لِأَنّهُ مُعَاوَضَةٌ عَمّا لَمْ يَسْتَقِرّ وَلَمْ يَجِبْ فَإِنّهَا إنّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنّهُ لَا تَصِحّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا حَتّى تَسْتَقِرّ بِمُضِيّ الزّمَانِ فَيُعَاوِضُ عَنْهَا كَمَا يُعَاوِضُ عَمّا هُوَ مُسْتَقِرّ فِي الذّمّةِ مِنْ الدّيُونِ وَلَمّا لَمْ يَجِدْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مَخْلَصًا قَالَ الصّحِيحُ أَنّهَا إذَا أَكَلَتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا. قَالَ الرّافِعِيّ فِي مُحَرّرِهِ: أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ السّقُوطُ وَصَحّحَهُ النّوَوِيّ لِجَرَيَانِ النّاسِ عَلَيْهِ فِي كُلّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ وَاكْتِفَاءِ الزّوْجَةِ بِهِ. وَقَالَ الرّافِعِيّ فِي الشّرْحِ الْكَبِيرِ والْأَوْسَطِ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَقْيَسُهُمَا: أَنّهَا لَا تَسْقُطُ لِأَنّهُ لَمْ يُوفِ الْوَاجِبَ وَتَطَوّعَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَصَرّحُوا بِأَنّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الرّشِيدَةِ الّتِي أَذِنَ لَهَا قَيّمُهَا فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا لَمْ تَسْقُطْ وَجْهًا وَاحِدًا.

.فصل مَا اُسْتُنْبِطَ مِنْ حَدِيثِ شَكْوَى هِنْدٍ:

.جَوَازَ ذِكْرِ الْعُيُوبِ عِنْدَ الشّكْوَى:

وَفِي حَدِيثِ هِنْدٍ: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الرّجُلِ فِي غَرِيمِهِ مَا فِيهِ مِنْ الْعُيُوبِ عِنْدَ شَكْوَاهُ وَأَنّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغِيبَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ فِي خَصْمِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.

.تَفَرّدُ الْأَبِ بِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ:

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَرّدِ الْأَبِ بِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ وَلَا تُشَارِكُهُ فِيهَا الْأُمّ وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلّا قَوْلٌ شَاذّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ أَنّ عَلَى الْأُمّ مِنْ النّفَقَةِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهَا وَزَعَمَ الْقِيَاسَ عَلَى كُلّ مَنْ لَهُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمَا وَارِثَانِ فَإِنّ النّفَقَةَ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ وَأُخْتٌ أَوْ أُمّ وَجَدّ أَوْ ابْنٌ وَبِنْتٌ فَالنّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْأُمّ. وَالصّحِيحُ انْفِرَادُ الْعَصَبَةِ بِالنّفَقَةِ وَهَذَا كُلّهُ كَمَا يَنْفَرِدُ الْأَبُ دُونَ الْأُمّ بِالْإِنْفَاقِ وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشّرْعِ فَإِنّ الْعَصَبَةَ تَنْفَرِدُ بِحَمْلِ الْعَقْلِ وَوِلَايَةِ النّكَاحِ وَوِلَايَةِ الْمَوْتِ وَالْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ وَقَدْ نَصّ الشّافِعِيّ عَلَى أَنّهُ إذَا اجْتَمَعَ أُمّ وَجَدّ أَوْ أَبٌ فَالنّفَقَةُ عَلَى الْجَدّ وَحْدَهُ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ الصّحِيحَةُ فِي الدّلِيلِ وَكَذَلِكَ إنْ اجْتَمَعَ ابْنٌ وَبِنْتٌ أَوْ أُمّ وَابْنٌ أَوْ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ فَقَالَ الشّافِعِيّ: النّفَقَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثّلَاثِ عَلَى الِابْنِ لِأَنّهُ الْعَصَبَةُ وَهِيَ إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالثّانِيَةُ أَنّهَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ فِي الْمَسَائِلِ الثّلَاثِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: النّفَقَةُ فِي مَسْأَلَةِ الِابْنِ وَالْبِنْتِ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ وَفِي مَسْأَلَةِ بِنْتٍ وَابْنِ ابْنٍ النّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنّهَا أَقْرَبُ وَفِي مَسْأَلَةِ أُمّ وَبِنْتٍ عَلَى الْأُمّ الرّبُعُ وَالْبَاقِي عَلَى الْبِنْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَقَالَ الشّافِعِيّ: تَنْفَرِدُ بِهَا الْبِنْتُ لِأَنّهَا تَكُونُ عَصَبَةً مَعَ أَخِيهَا وَالصّحِيحُ انْفِرَادُ الْعَصَبَةِ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنّهُ الْوَارِثُ الْمُطْلَقُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ مُقَدّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَأَنّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنّ لِمَنْ لَهُ النّفَقَةَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ إذَا مَنَعَهُ إيّاهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ احْتَجّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْأَلْهَا الْبَيّنَةَ وَلَا يُعْطَى الْمُدّعِي بِمُجَرّدِ دَعْوَاهُ وَإِنّمَا كَانَ هَذَا فَتْوَى مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَقَدْ احْتَجّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظّفْرِ وَأَنّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ بِقَدْرِ حَقّهِ الّذِي جَحَدَهُ إيّاهُ وَلَا يَدُلّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنّ سَبَبَ الْحَقّ هَاهُنَا ظَاهِرٌ وَهُوَ الزّوْجِيّةُ فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ خِيَانَةً فِي الظّاهِرِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَدّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ وَلِهَذَا نَصّ أَحْمَدُ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مُفَرّقًا بَيْنَهُمَا فَمَنَعَ مِنْ الْأَخْذِ فِي مَسْأَلَة الظّفْرِ وَجَوّزَ لِلزّوْجَةِ الْأَخْذَ وَعَمِلَ بِكِلَا الْحَدِيثَيْنِ.
الثّانِي: أَنّهُ يَشُقّ عَلَى الزّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَيُلْزِمُهُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ الْفِرَاقِ وَفِي ذَلِكَ مَضَرّةٌ عَلَيْهَا مَعَ تَمَكّنِهَا مِنْ أَخْذِ حَقّهَا.
الثّالِثُ أَنّ حَقّهَا يَتَجَدّدُ كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَ هُوَ حَقّا وَاحِدًا مُسْتَقِرّا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَدِينَ عَلَيْهِ أَوْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ بِخِلَافِ حَقّ الدّيْنِ.